أتذكُر ذلك المساء.. قبل عامين عندما غادرتك وتركت على أرض مكتبك دمعاتي بقعاً حارة.. ظننت أنها ستغرقك.. كنت قد غادرتني في نفس الليلة.. تركتني أذهب ولم تمسك بمعصمي وتستبقيني كما تمنيت..
اشتَعَلت بداخلي وقتها حرائق ضخمة.. وبدى لي أن لا شيء من رائحتها استفزك.. ولا شيء فيك قد تَحرك.. وتَناثَر الرماد يومها ثلجاً سد كل الطرق المؤدية إليك..
أشتقتك بعنف.. لدرجة كنت أمسك فيها الهاتف بلا وعي.. أضغط الأرقام بدون تفكير.. أسمع الجرس الأول.. الثاني.. ثم ألو.. ولا أدري بعدها ماذا أقول لك.. لا أعلم أصلاً ما الذي دفعني للإتصال..
كنت أفتقدك بشدة.. ولا أدري أين أذهب بكل هذا الإشتياق.. وماذا أفعل بدونك.. أين أذهب.. ولماذا يصبح العالم كبيراً لهذه الدرجة التي لا أستطيع فيها سماع خبر عنك ولو صدفة.. لكنك آثرت الجلوس على مقعد مكتبك كما آثرت الرحيل من داخلي..
لقد كنت فيني كل ما أملك.. وكنت لك بعضاً من الأشواق تساقطت منك عندما حركت كتفك وهممت بالرحيل.. سحقاً لحبك.. أسقطته أنت كما ألصقته بك أنا.. كأنك سلبت مني ذاتك أو أنني تناثرت منك مع الغبار..
لكنني اليوم أقتلعك.. أجتذ جذورك من أعماق أعماقي.. وأسلمك أياها أيها الغريب البعيد.. وفرحتي باحتضارك اليوم تجاوز فرحتي بولادتك في داخلي..
فاليوم احتفل بك نعشاً فرعونياً تحمله لك أطرافي كذكرى موت منسية تغادرني إلى المدافن إلى الأبد..
واليوم أحرق كل مواكب الأشواق والأفراح في حضرة التاريخ والذاكرة.. وأنثر رمادها خلفك كي لا تعود.. وتبتلعك الأزمنة والأمكنة والوجوه..
واليوم أرمم الأخاديد في قلبي.. أقتلع مسامير عشقك الزائفة.. علقتها فيني لافتات من وهم.. ورددتها حتى صدقتها وصدقتك..
واليوم أصلح قلباً معطوب الحِس لغيرك.. وخاطراً لا تتجاوز غيماته سماءك..
واليوم يا فرحتي ويا جيوش مواجعي أدفنك.. وأدفن معك صوت ورائحة وأياماً أعرفها جيداً..
واليوم أكتب لك تذكرة خروج.. وأوقع لك وعنك ميثاق رحيل بلا عودة.. وأطمس أمامك معالم وجعك.. وأقسم لك إن أردت وإن أشبعك ذلك.. أن لا مكان لك في داخلي فما عدت تعنيني..
اليوم.. في ذكرى رحيلك الثاني.. أدفن فيك حزناً كاد يقتلني .. وأشيعك جثة حب هامدة فاحت رائحة غدرها منذ عامين..