ميلادُ الصَبية | قصة قصيرة بمناسبة اليوم العالمي للطفولة


في الصباح البارد على رصيف ميناء وعر كانت تجلس أمي تحيك لي قميص وِلادتي.. جُزء منه كان من طرف ثوبها المثقوب بسبب رصاصة أخطأت جسدها فاخترقته.. والجزء الآخر من كتف لأبي..
كان ينقل بها الأمتعة من الباخرة إلى المخازن حتى تمزقت الكتف.. والأجر الزهيد كان يحمل به لها الطعام.. برِضى المتعفف عن كل شك في عطاء الله.. بؤس الحياة لم يتملكه رغماً عن الموت الذي كان يُحصي إخوتي.. إخوته.. شعيرات رأسه السوداء كان يحنطها بالأبيض..

هكذا هي الحياة.. على أحد معابر الطريق الضيقة الطويلة حاصرتني بل أرغمتني على الخروج من رحم النقاء والدخول إلى متاهاتها المظلمة.. كنت أحمل هم ظهري من القنابل وكانت أمي تحملني داخل بطنها أملاً في الحياة.. حَجراً في وجه الرصاص.. شهيداً آخر تنجبه كي تسقي بدمائه شجر الزيتون.. وتطمر بجسده تراباً داس على طُهرها سلالة نَجِسة..

ومع ذلك خَرجت.. بصبر أرضعتني إياه أمي قبل أوان الرضاعة.. خَرجتُ بابتسامة.. لم أصرخ في وجه أحد.. لم أبكِ رُغم أن ضوضاء الحرية صاخب.. والأصوات العجماء بجانبي تزمجر طوال الوقت.. وأخبار الجيران تعتم الأسماع.. مازلوا خائفين تائهين عن الممات.. يعشقون الحياة بزيفها.. يحتفلون كل يوم بلا سبب يشعلون النار ثم يرقصون على أضوائها بنشوة حتى تلتهم وجوههم..
مازالوا يصنعون لأنفسهم أرضاً فوق أرضنا وسماء أقرب إليهم من السماء الدنيا.. يعلقون النجوم بأيديهم على السقف.. ثم ينزعونها إذا كفت عن الوميض..

وهنا بالقرب من مضجعي.. الباخرة تنفجر والرصيف يتهشم.. والشظايا تقتلني في مهدي قبل أن يراني الغد كيف سيحبو حلمي كقمر بلا نجوم ولا سقف إلا لبيت ينفتح بمفاتيح الإباء..

وفي الأفق عندما يلوح الغد سيطلقون الرصاص مجدداً جهراً على بيوتنا المسكونة بأماني الحرية.. فتَنبِِتُ الحجارة في كل مكان.. وستُزهر القنابل سنابلاً.. وسيخرج من رحم أمي بسخاء كل يوم قبيلة من الشهداء تعادل أطنان الحجارة التي أبت الإنهزام.. هكذا علمتنا الحياة منذ عقود كيف يفقد الموت هيبته.. وكيف يمكن أن نحيا ونموت قبل أن يبيت بداخلنا الخوف..





كتب الشاعر محمد المهندس:
يا ويلهم
من دعوةِ المكلومِ والمظلومِ ليس يُدنيها حجابٌ
إن تَعالى الصوتُ فيها أو سَكَت
إن هاجرت أحلامُنا مِنَّا وإن قهراً بكت
إن صارَ ميلادُ الصباحِ نهايةً لصغيرةٍ لا غازلت حُضنَ المساءِ ولا حبَت 
فالشمس لن ترضى الأُفول ولن يسد طريقها جَالوتَ آخر
إن ثورات الحجارة قد أبَت