تنهيدة



نقطة في أول سطر:-
قلم رصاص أهداني إياه ذات حب.. خبأته طويلاً.. وبدأت أكتب به بعد أن رحل.. فأصبحت كل جملي وعباراتي تستسقي من نهر حبه الفياض كما من قلمه الذي لم ينضب بعد.. عساها تودعني هذه الذكرى..
قلم رصاص صغير.. أسطر به حروفي الأولى على صفحة الحلم الكبير.. أكتب به قصصي وحكاياتي وآمالي وشيئاً من أحلامي.. عزماً على العمل وحلماً بالمستقبل.. الطويل المسار القريب المنال..

نقطة جديدة في سطر جديد:-
كان يحبها وكانت تعشقه.. وكانت بداية ككل البدايات.. لا تغادر الخيال إلا بابتسامة.. وقصة يندر أن تطول في واقع يغلق بابه أمام الحكايات الطويلة.. كان لهما بيت صغير بسيط وبضع قطع أثاث تفرقت على أركانه.. لكنه يضج صخباً من ضحك الأحاسيس الجميلة المنبثقة منه.. يشعر كل من يمر بباب بيتهم أو يدخله بكتلة من ذلك الحب الدسم تسري إليه بعفوية..
قيل بأن الحب يهرب إذا أتى الفقر.. لكن حبهما انعجن به وكبر حتى أصبح مصدر إلهام الناس..
كان حزنها الوحيد تلك اللفافة البيضاء التي لا تفارقه.. يحرقها يستنشق هواءها بنشوة.. عندما يختلي بها عنها.. تشعر وكأنها تتقاسمه معها عشقاً وعُمراً..
بحت كلماتها وهي تحاوره مرة وتجادله مرات عدة.. يطيعها مرة وعبثاً يجرجر مزاجه يده نحو جيب جلابيته.. تراقبه من بعيد يخرج سراً لفافة تبغ.. يشعلها سريعاً.. يُقسم بينه وبين نفسه أنها آخر مرة.. يلمحها تسترق النظر إليه.. يسقطها أرضاً وهو يتمتم "هو رجل وهي أنثاه التي تغفر له كلما أخطأ"..
أقبل عليها ذات مساء يحمل الشاي كعادته.. متأبطاً حبه لها راسماً إبتسامه حنونة على محياه بجانبها لفافة بيضاء.. لكنه لم يكمل طريقه إليها.. لم يكمل معها الطريق.. تساقطت منه تلك الأشياء التي كانت بيده وفمه.. سمعت فقط صوت ارتطامه بالأرض.. هرولت إليه.. تحسست قلبه.. كان متثاقل النبض.. تزاحمت في مخيلتها الكثير من المشاهد والصور.. والصوت بداخلها واحد يصرخ بقوة: "إتصبري"..
طارت به إلى المشفى فاقداً وعيه كما سقط.. واستمر على حاله زمناً طويلاً..
على غفلة من الحب.. أصابه ذلك المرض.. مبكراً كما توقعت مداهماً وقتهما كما كانت تخشى.. شاخت فيها كل الأمنيات التي صلبتها بجانبه يوماً.. وتقلصت العبارات التي رددتها قديماً له وأصبحت عِبرة تسد حلقها كلما نظرت إليه..
عندما مات.. تعثرت خطاها بدونه كثيراً.. وتشوهت بداخلها كل التفاصيل الجميلة على أعتاب حياة مُرة كئيبة..
افتقدته رجلاً.. تحللت برحيله معالم الرجال سريعاً.. مثلما تحللت خلاياه الحية وأفقدته القدرة على مواصلة الحياة بجانبها كما عاهدها..

على الهامش:-
ؤلائك البعيدون.. الذين رحلوا ومازلوا يرحلون عنا كل يوم أجساداً وأرواح.. إلى الحياة وإلى المقابر.. فقط لو يعلمون كيف تصبح كل التفاصيل رثة لحظة الغياب!