عثمان شبر .. متحف الفن الأفريقي المعاصر



استقبلنا في منزله الذي حوله لمتحف صغير بأحد بيوت الخرطوم، وأغرقنا بالحكايات الشيقة عن حياته المليئة بالمغامرة والمتمحورة حول بحثه عن الفن ومعنى الجمال. أخذنا في جولة على لوحاته المتراكمة على بعضها من ضيق المكان ومن كثرتها، رسم للأشخاص والقضايا والظلم الذي يتعرض له الإنسان فكانت جميع اللوحات تنطق.
ولد الفنان التشكيلي السوداني عثمان الأمين علي شبر في مدينة ود مدني عام 1940، عمل والده في بساتين الحكومة الإنجليزية السودانية، وهو ما منحه فرصة زيارة مناطق كثيرة في السودان، حتى استقر في مدينة ملكال بجنوب السودان ودرس مراحله الأولية والثانوية الفنية حيث استقرت به ذائقته الفنية، إلى أن انتقل إلى برلين - ألمانيا لدراسة هندسة تصميم المعارض والرسم في المعهد الحكومي للفنون البصرية، وتخرج عام 1970.
عثمان شبر عمل كأستاذ جامعي ومحاضر في التصميم الداخلي والعمارة في عدد من الجامعات السودانية، وله حوالي خمس مؤلفات في الفنون والتصميم، بالإضافة إلى سلسلة المعارض التي أقامها في كلٍ من السودان وألمانيا وإنجلترا منذ عام 1975 وحتى الآن.
سألته عن أثر الثقافات المختلفة على حياته الشخصية فقال: "ألمانيا التي عشت بها لها جانب مؤثر بالتأكيد فأنا درست وعملت لفترة طويلة هناك، تزوجت بألمانية وأبنائي الآن ألمانيوا الجنسية، بالإضافة لهويتي الأصلية السودانية. أظن بأن روحي خليط من الثلاثة ثقافات التي أنتمي إليها، فأنا أعتبر نفسي عربي الكرامة، أفريقي البساطة والنقاء وألمانياً بالصدق والتجويد".


الحياة في جنوب السودان - النقلة:
في عام 1954 عندما انتقل مع اسرته إلى ملكال عاش وسط قبائل الشُلُك والدِينكَا والنّوير يحلب معهم الأبقار ويشرب لبنها النيء كما يقول: "سحرني المناخ الخريفي والأرض الخضراء طوال السنة والطيور الملونة، وهو ما قلب رؤيتي للجمال والفن".
"أراقب عن كثب قيمهم وعاداتهم: الأطفال من عمر ثماني إلى ستة عشر سنة يهتمون بالبقر ويسوقونها لمناطق الرعي، الفتيان ذوي العشرين ربيعاً يحملون الحراب ويمشون بجانبها لحمايتها من السرقة، الرجال عندما يبلغون الأربعين لا يذهبون للرعي، بل يلتزمون بالمجالس تحت ظلال الأشجار لحل النزاعات بين القبائل. مهور زيجاتهم بالبقر فالنقود لا قيمة لها عندهم. وأبواق النقارة يصدح بها الشباب في العزاءات أو الأفراح، وفي الخريف لا يصابون بالرطوبة رغم عريهم ورطوبة الجو العالية، لأنهم يرتدون أساور النحاس، وهو ما اكتشفه العلم مؤخراً. هذه القبائل متحضرة لكن بطريقة مختلفة. أنا أيضاً تأثرت بهم في ملكال كنت أملك بقر، بعته لأسافر لألمانيا".


ألمانيا - المحطة:
بعد رحلة بالقطار حول أوروبا دامت ثلاث سنوات استقر به المقام في برلين عام 1962، يقول عن تجربته: "صادفني الحظ في القطار بأمريكية عجوز وشابتين ألمانيتين كُنّ في طريقهن لزيارة صديقتهم في برلين حيث يعمل زوجها في كلية الفنون التي قادني بعد ذلك لحصولي على فرصة الإلتحاق بها، في زمن لجأت فيه أوروبا للتصنيع والدعاية والمعارض الفن الجرافيكي، اتجهت إلى دراسة هندسة العمارة وبناء المعارض الدولية هناك في خمس سنوات، ثم أخذت درجة الماجستير في ست سنوات، وبعدها عملت في معارض برلين الحرة.
- كيف اندمجت هناك مع المجتمع؟
"كنت أنا أول أفريقي أسود يدخل كلية عريقة مثل المعهد الحكومي للفنون البصرية بعد الحرب العالمية الثانية، وكنا نعامل بحب واحترام عاليين بدون التعرض لأي مضايقات، أما اللغة الألمانية التقطتها من الإندماج مع الناس والحديث معهم في الشارع، ودرستها في معهد للطلاب الأجانب لتعلم كتابة".



الحياة الفنية - التمرد على الثقافة الفنية المحلية والمفاهيم والأفكار:
الداخل إلى معرضه الصغير الذي خصص له جزء مقدراً من منزله يلحظ على لوحاته كثرة اللون الأبيض والذي يعتبر أصل الورقة، لكنه يستخدمه بطريقته المميزة في التعبير، ثم يشدك الثور المرسوم بأشكال مختلفة في معظم لوحاته. سألته أهو متأثر إلى هذا الحد بثقافة القبائل الأفريقية التي عاش بينها؟ فقال لي: "أنا أقوم بالتوثيق لما شاهدته وعشته بطريقة متجددة لتعريف الناس بشعوب هذه المنطقة، أرسم رسومات بدائية عن بيوتهم وأكلهم وحياتهم لكن لها معنى عميق".
هذا الحديث قادنا للسؤال عن رأيه في شكل الفن السوداني والفنانين السودانيين الموجودبن الآن في الساحة، فقال: "هو فن محلّي، للداخل، للمزاج السوداني ليس له علاقة بالعالمية، العالمية هي التمرد على الداخل واستنباط ما لم يكن موجود من قبل".
شبر رفض الفن المحلي في تجربته الفنية، ست الشاي، قبة المهدي، بيت الخليفة، القرية والقطاطي، فاطلاعه في زمن مبكر على أشكال الفن المختلفة عن ما كان يألفه جعله منفتحاً أكثر على التجارب المستحدثة في التشكيل، يقول: " تمردت على هذه الأشياء لأنها تحصر أعمال الفنان في المحلية حتى تندثر وتموت، وهو الخطأ الذي دائماً ما نقع فيه كعرب، وحتى في مجالات مختلفة عن الفن. التقليدية لا تتقدم بالإنسان، يجب أن تبحث عن العالمية فهي التمرد على ما يحدث، والرسم لغة يفهمها كل الناس".
- لماذا لا نجد أعمالك في المعارض هنا في السودان؟
"لأن أعمالي غير قابلة للبيع والإقتناء، فهي لا تمس الهوية السودانية بالتحديد حتى تصبح مقبولة للذوق السوداني. خصوصية أعمالي الفنية في تعقيدها وعالميتها وتمردها على المحلية -وهذا الأمر بشهادة فنانين ونقاد العالميين- هو ما يدفعني إلى إقامة متحف وعدم الإكتفاء بمجرد معرض أو معارض هنا في السودان".


المشروع - متحف الفن الأفريقي المعاصر Modern African Art:
كرس هذا الفنان السوداني خلاصة تجربته لتأسيس متحف عالمي للفن الأفريقي المعاصر، فقام بجمع أعماله الفنية من لوحات ومنحوتات منذ عام 1959 وحتى الآن، بالإضافة إلى استناده على خلفيته الأكاديمية في تصميم المعارض، قام بتصميم مشروع متكامل لمتحف الفن الأفريقي، والذ تقدر تكلفته بـ 100 ألف دولار، ليصبح المعرض الدائم الأول من نوعه في العالم بحسب روايته. ويضم أيضاً كافة أشكال الفن الأفريقي كالفلكلور والآلات الموسيقية.
يقول عن أعماله التي يعكس بها الفن الأفريقي: "حاولت الجمع بين البساطة الأفريقية والتعقيد الأكاديمي للفن التشكيلي، من حيث النِسَب والكتل ومفاهيم الجمال، فترى أعمالي لأول مرة على أنها سيريالية، تجريدية أو كلاسيكية أو جميعها معاً، فقد جمعت بينهم ليجد كل متلقٍ حاجته دون الإبتعاد عن مضمون اللوحة وفكرتها".
يحكي السيد شبر عن العروض المتكررة التي يتلقاها لبيع لوحاته ومنحوتاته المقيمة بأكثر من 10 ألاف جنيه استرلينياً للقطعة الواحدة. يقول: "أنا لا أبحث عن المال، أنا أعمل لوضع علامة في الفن، لا يمكن لعمل مثل هذا أن يوضع في صالون منزل لأحد الأغنياء، الفن حق لكل الناس، ومكانه المتحف. وأنا على يقين بأنه سيأخذ حظه الإعلامي حين ينشأ المتحف".
- متحف الفن الأفريقي، أين سيكون ومتى نتوقعه؟ هل يمكن أن يكون هنا في السودان؟
"أنا أطرح هذا المشروع كمشروع عالمي وليس محلي، تستطيع أن تتبناه أي دولة، في العالم كله لا يوجد متحف متخصص للفن الأفريقي المعاصر، هنالك متاحف أثرية وليست متخصصة وهنا تكمن أهمية وقيمة هذا المتحف، لذلك أعمل على التنسيق لتأسيسه خارج السودان، أوربا تحديداً، وسيضم أعمالي الخاصة التي تفوق المئة قطعة فنية بالإضافة لبعض الآلات الموسيقية الأفريقية فيما يخص شق الفلكلور".


قالوا عنه:
الفنان التشكيلي والبروفيسور أحمد محمد شبرين قال عنه: "لقد باشر كل هذا النشاط دون أن يتحدث عن نفسه إلا بالقدر الذي ينجز به مشروعاته التي يتعهد بها، أو في خدماته التي قدمها لجامعة الخرطوم أو مشروعات التدريس في أكثر من كلية. لوحاته الزيتية منشطرة الأبعاد، متداخلة النسق، حادة الخطوط المكونة للمرئية لمفردة جمالية متحدة الأطراف تنطلق من مركز الوسط في اللوحة ثم تتقاطع الخطوط والمساحات غير معوّل على محاكاة الطبيعة في مكوناتها التي نشاهدها في حياتنا اليومية، هو يجرد الطبيعة ويحررها من نسقها الطبيعي إلى قياسات الرؤى".


كتب المقال لصالح مجلة أندريا